هدنة الـ60 يومًا.. تعديلات شكلية أم تحوّل جوهري في معادلة غزة؟
هدنة الـ60 يومًا.. تعديلات شكلية أم تحوّل جوهري في معادلة غزة؟

بين شدّ وجذب لا ينتهي، يطفو على السطح مقترح هدنة جديد في غزة، محمَّل بآمال متجددة ومخاوف قديمة، فالوساطة الدولية، بقيادة واشنطن والدوحة والقاهرة، أعادت إحياء مسار التفاوض عبر نسخة معدلة من المبادرة الأميركية الأصلية التي طرحها المبعوث ستيف ويتكوف قبل أشهر، المبادرة الحالية تتحدث عن وقف لإطلاق النار لمدة 60 يومًا بضمانات واضحة من القوى الوسيطة، في محاولة لتبديد هواجس الطرفين بعد تجارب سابقة اتسمت بالهشاشة، اللافت أن حركة "حماس" أبدت استجابة إيجابية، مؤكدة أن ما طُرح يلبّي نحو 98% مما سبق أن وافقت عليه إسرائيل نفسها، لكن وسط هذه الأجواء، يتبادر سؤال جوهري: هل نحن أمام مجرد صياغة جديدة لا تغيّر في جوهر الموقف شيئاً، أم أن إدخال عناصر الضمانات وجدولة تبادل الأسرى والرهائن وصياغة الانسحابات العسكرية قد يمثل نقلة نوعية تعيد تشكيل المشهد.
الفوارق بين المقترحين
المقترح الجديد، الذي تدعمه واشنطن والدوحة والقاهرة، لا يبتعد كثيرًا عن مقترح ويتكوف الأصلي، لكنه يضيف لمسات توصف بأنها "تفاصيل حاسمة"، على رأس هذه التعديلات إدخال عنصر الضمانات الدولية، وهو بند لم يكن مطروحاً بوضوح في النسخة السابقة.
فبينما اكتفت المبادرة الأولى بالدعوة لمواصلة المفاوضات، تنص النسخة الحالية على التزام الوسطاء، بمن فيهم الولايات المتحدة، بمتابعة التنفيذ وضمان استمرار وقف النار ما دامت المباحثات قائمة.
هذه الصياغة تحاول سد ثغرة شديدة الحساسية، حيث اعتادت إسرائيل إيقاف التهدئة عند أول خلاف، فيما رأت الفصائل أن غياب الضامن يجعل أي اتفاق "كلامًا على ورق".
الرهائن والأسرى
التفصيل الأكثر بروزًا يتمثل في طريقة إدارة ملف الرهائن، في المقترح الأصلي كان التسليم يتم دفعة واحدة في اليوم الأول، بينما يقترح النص الجديد تقسيم العملية على مرحلتين: 10 رهائن إسرائيليين يطلق سراحهم على دفعتين، الأولى في اليوم الأول والثانية في اليوم الخمسين. في المقابل، ستطلق إسرائيل سراح ما يقارب 140 أسيرًا من أصحاب الأحكام العالية والمؤبدات، إضافة إلى 60 أسيرًا قضوا أكثر من 15 عامًا خلف القضبان، مع إدراج النساء والأطفال والمعتقلين من غزة بعد 7 أكتوبر.
أما جثامين الرهائن، وعددها 18، فسيجري تسليمها على مرحلتين أيضًا، بدءًا من اليوم السابع وحتى اليوم الثلاثين، مقابل الإفراج عن نحو عشرة جثامين فلسطينية لكل جثة إسرائيلية.
هذه الجدولة تمثل محاولة واضحة لإطالة أمد التهدئة وربطها بمراحل التنفيذ، على أمل منع انهيار الاتفاق فجأة كما حدث في جولات سابقة.
المساعدات الإنسانية
كلا المقترحين، القديم والجديد، يتفقان على إدخال مساعدات إنسانية "فورية وكثيفة" منذ اليوم الأول، وهو بند لا يحتمل التأجيل في ظل الكارثة الإنسانية التي يعيشها سكان غزة، لكن التحدي يكمن في آلية التوزيع وضمان وصول الإمدادات إلى شمال القطاع الذي يعاني من شبه حصار داخلي.
ويُشير دبلوماسيون إلى أن المقترح الجديد يتضمن آليات رقابة دولية أوسع، بما يضمن دخول المواد الغذائية والدوائية والوقود بكميات أكبر.
الانسحاب يبقى بندًا معلقًا بين الصياغة العامة والتطبيق الميداني، كلا المقترحين ينصان على انسحاب القوات الإسرائيلية إلى خطوط ما قبل مارس الماضي، لكن الجديد يحدد المسافات بدقة أكبر، تراوح بين كيلومتر واحد أو أقل في بعض المناطق.
كما حافظت إسرائيل على تموضعها في بعض نقاط رفح، لا سيما قرب محور موراغ، استنادًا إلى "الخريطة المعدلة" التي قدمها الوسطاء قبل أربعة أسابيع، والتي قبلت "حماس" التفاوض عليها بتحفظ.
هذا الترتيب يعكس محاولة لتوازن دقيق، إبقاء إسرائيل قادرة على المناورة الأمنية، مقابل منح "حماس" فرصة لإعادة تنظيم المشهد الداخلي بما لا يُفسّر كـ"استسلام".
ما بعد الهدنة
المقترح الجديد لا يغفل عن الملفات الكبرى المؤجلة، مثل إدارة القطاع بعد الحرب، مستقبل سلاح "حماس"، ومسألة "اليوم التالي" بشكل عام.
لكنه يربط هذه القضايا بـ"المرحلة الثانية" من المفاوضات، التي تبدأ بالتوازي مع الهدنة وتمتد طالما استمر وقف النار.
هذه الصياغة تعكس إدراك الوسطاء أن أي اتفاق لا يمكن أن يقتصر على الجانب الإنساني، بل يجب أن يفتح الباب لمسار سياسي طويل، حتى لو بقيت الخلافات العميقة معلقة.
فحماس بحسب لها القبول السريع نسبيًا بالمقترح الجديد وهو ما يوحي برغبتها في استثمار اللحظة السياسية لإظهار مرونة، خصوصًا أن البنود تكاد تتطابق مع ما وافقت عليه إسرائيل سابقًا.
الجانب الإسرائيلي، يعكس التأخير في الرد تردد القيادة الإسرائيلية بين ضغط واشنطن والقاهرة، وبين اعتبارات الداخل حيث يرى اليمين أن أيّة صفقة "تنازل استراتيجي".
من جانبه، يرى الدكتور محمد المنجي، أستاذ العلوم السياسية، أن المقترح الجديد للهدنة في غزة "يعكس لحظة فارقة في مسار الصراع"، لكنه لا يخلو من حسابات معقدة قد تعرقل تنفيذه.
ويقول المنجي - في تصريحات لـ"العرب مباشر" - : إن إدخال بند الضمانات الدولية يعدّ أهم إضافة جوهرية مقارنة بالمقترح الأصلي، لأنه للمرة الأولى يُلزِم الولايات المتحدة والوسطاء بمتابعة دقيقة ويمنح الطرفين شعورًا بوجود طرف ثالث مسؤول عن التنفيذ.
ويُضيف أن الجدولة الزمنية لتبادل الأسرى والرهائن تعكس إدراك الوسطاء لضرورة ربط الهدنة بمراحل ملموسة، ما يمنع الانهيار المبكر ويمنح الأطراف هامشاً للتحرك السياسي.
لكنه يُشير في الوقت نفسه إلى أن هذه الجدولة قد تتحول إلى نقطة ضغط متبادلة، حيث يمكن لأي طرف تعطيل التنفيذ للضغط في ملفات أخرى.
وبحسب المنجي، فإن إسرائيل تتعامل مع هذه الصيغة بقدر كبير من الحذر، خشية أن تُفسَّر كتنازل استراتيجي أمام "حماس"، بينما تحاول الأخيرة استثمار المقترح لإظهار نفسها لاعبًا قادرًا على فرض شروطه في التفاوض. ويخلص المنجي إلى أن نجاح الهدنة لن يُقاس فقط بوقف إطلاق النار، بل بقدرة الوسطاء على تحويلها إلى مدخل لعملية سياسية أوسع تتناول "اليوم التالي" للحرب، وهو التحدي الأصعب في المشهد الحالي.