من صناديق الاقتراع إلى معركة الشرعية.. انتخابات بلا جمهور في سوريا الجديدة
من صناديق الاقتراع إلى معركة الشرعية.. انتخابات بلا جمهور في سوريا الجديدة

في لحظة فارقة من تاريخ سوريا الحديث، يفتح السوريون صفحة سياسية جديدة مع انطلاق أول انتخابات برلمانية بعد الإطاحة بنظام بشار الأسد في ديسمبر الماضي، مشهدٌ يحمل في طيّاته مزيجًا من الأمل والريبة، إذ يجد البلد الذي أنهكته الحرب نفسه أمام تجربة غير مسبوقة منذ أكثر من نصف قرن، وسط أسئلة كبرى حول شكل النظام الجديد، ومَن سيتصدر المشهد في مرحلة ما بعد الأسد، فالانتخابات التي تُجرى اليوم الأحد تمثل أول خطوة رسمية نحو بناء مؤسسات الدولة الجديدة، إلا أنها تجري في ظروف معقدة، حيث ما تزال بعض المناطق خارجة عن السيطرة، وملايين السوريين نازحين داخل البلاد وخارجها، ما يطرح تساؤلات حول مدى شمول العملية ومصداقيتها، وحول قدرة البرلمان المقبل على أن يكون فعلًا ممثلًا لإرادة السوريين لا مجرد واجهة انتقالية في مشهد سياسي ما يزال ضبابيًا.
انتخابات ما بعد "الأسد"
بدأت اليوم في مختلف المحافظات السورية عملية التصويت لاختيار أعضاء أول مجلس شعب بعد سقوط نظام بشار الأسد، في حدث يُنظر إليه على أنه محطة تأسيسية ستحدد ملامح المرحلة المقبلة في البلاد.
ووفق ما أعلنته اللجنة العليا لانتخابات مجلس الشعب، فتحت مراكز الاقتراع أبوابها في التاسعة صباحًا، لتستقبل أعضاء الهيئات الناخبة الذين يحق لهم التصويت، على أن تُغلق الصناديق في الثانية عشرة ظهرًا، مع إمكانية التمديد حتى الرابعة بعد الظهر في حال لم تُستكمل عمليات الاقتراع.
ورغم أن العملية الانتخابية تشمل معظم المحافظات السورية، فإنها تستثني مناطق واسعة في الرقة والحسكة والسويداء لأسباب أمنية وإدارية، حيث ما تزال السيطرة فيها موزعة بين سلطات محلية أو جماعات مسلحة، ما يعني أن نحو 19 مقعدًا برلمانيًا سيبقى شاغرًا إلى حين توافر الظروف المناسبة لإجراء الانتخابات فيها، وفقًا لما نقلته وكالة "سانا" الرسمية.
ويبلغ عدد المرشحين 1578 مرشحًا، من بينهم نحو 14% من النساء، في خطوة تسعى السلطات الجديدة لتقديمها كدليل على انفتاح المرحلة المقبلة ومشاركة أوسع للفئات المدنية، بعد عقود من احتكار السياسة داخل حزب واحد وهيمنة الأجهزة الأمنية على المجال العام.
آلية انتخابية مختلفة
وتأتي هذه الانتخابات ضمن آلية جديدة كليًا أقرّها الرئيس الانتقالي أحمد الشرع، الذي أصدر مرسومين أساسيين لتنظيم العملية.
المرسوم الأول نصّ على تشكيل اللجنة العليا لانتخابات مجلس الشعب من أحد عشر عضوًا، تتولى الإشراف الكامل على مراحل الاقتراع والفرز وإعلان النتائج، بينما حدد المرسوم الثاني عدد أعضاء المجلس بـ 210 مقاعد، موزعة على المحافظات وفق الكثافة السكانية، وعلى فئتين رئيسيتين: فئة الأعيان وفئة المثقفين.
اللافت في النظام الجديد، أنه ألغى فكرة الاقتراع العام المباشر التي كانت متبعة في بعض المراحل السابقة، واعتمد بدلاً منها على نظام الهيئات الناخبة المحلية، بحيث يقتصر حق التصويت والترشح على أعضاء هذه الهيئات، وهم شخصيات منتخبة مسبقًا داخل كل منطقة إدارية.
وبررت السلطات هذا التحول بعدم وجود بيانات دقيقة عن عدد السكان أو أماكن وجودهم، في ظل نزوح ولجوء ملايين السوريين منذ اندلاع الحرب، معتبرة أن النظام الجديد "مرحلة انتقالية ضرورية" إلى أن تستقر الأوضاع الديموغرافية والإدارية في البلاد.
تحديات الشرعية والتمثيل
ورغم محاولات الحكومة الانتقالية تقديم الانتخابات كخطوة على طريق إعادة بناء الدولة، فإن العديد من المراقبين يرون أن التحدي الأكبر يكمن في الشرعية التمثيلية، فالملايين من السوريين المقيمين في الخارج أو في المناطق الخارجة عن السيطرة لا يشاركون في التصويت، ما يجعل البرلمان الجديد بعيدًا عن تمثيل كامل الطيف السوري.
ويرى مراقبون، أن النظام الانتخابي الجديد يحمل طابعًا محافظًا يهدف إلى ضبط المشهد السياسي أكثر مما يسعى إلى فتحه.
فاقتصار التصويت على "الهيئات الناخبة" قد يؤدي إلى إعادة إنتاج النخبة التقليدية بشكل جديد، بينما تظل القوى الثورية والمدنية الشابة على هامش اللعبة السياسية، مؤكدين، أن “الانتخابات البرلمانية في سوريا هي بمثابة اختبار واقعي لقدرة النظام الجديد على إدارة مرحلة انتقالية معقدة دون انزلاق نحو الفوضى.
فغياب التمثيل الكامل لا يلغي أهميتها الرمزية، لكنها لن تكون كافية ما لم تتبعها إصلاحات عميقة تشمل قانون الأحزاب والإدارة المحلية والإعلام.
الأهم – برأيه – أن "تعكس النتائج توازنات القوى داخل المجتمع، لا مجرد ترتيبات فوقية صيغت داخل أروقة السلطة الانتقالية”.
حرمان الملايين يفرغ العملية من مضمونها
من جانبه، يقول المحلل السياسي السوري د. سمير العيطة: إنّ الانتخابات الجارية اليوم تمثل منعطفًا بالغ الحساسية في المسار السوري، لكنها لا تعني بالضرورة بداية مرحلة ديمقراطية حقيقية، فبرأيه، "ما يحدث هو محاولة لترميم الشرعية السياسية للنظام الجديد أكثر من كونه عملية تداول سلطة، لأن المشهد السوري ما زال خاضعًا لتوازنات معقدة بين قوى داخلية متناحرة ونفوذ إقليمي ودولي متشابك".
ويضيف العيطة في حديثه لـ"العرب مباشر"، أن النظام الانتخابي القائم على الهيئات الناخبة قد صُمم ليضمن قدرًا من التحكم بالمخرجات، بدلًا من فتح الباب أمام مشاركة واسعة يمكن أن تفلت من السيطرة.
فحرمان ملايين السوريين في الخارج أو في المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة من حق التصويت، يفرغ العملية من مضمونها التمثيلي، ويجعل البرلمان المقبل مجرد "تعبير إداري عن مرحلة انتقالية" لا عن إرادة الشعب.
ويرى العيطة، أن الاختبار الحقيقي سيبدأ بعد إعلان النتائج، لأن قدرة المجلس على التشريع بحرية ومساءلة الحكومة ستكون المعيار الحقيقي لتغيير قواعد اللعبة.
لكنه يخلص إلى أن المشهد الحالي لا يوحي بولادة نظام ديمقراطي متكامل، بل ببداية مسار طويل وشائك نحو إعادة بناء الدولة، قد يحتاج إلى توافق وطني أوسع مما تتيحه صناديق اقتراع محدودة.