حين تصبح الشائعات أقوى من الوقائع.. كيف تحوّلت الإمارات إلى هدف لآلة الدعاية السودانية؟
حين تصبح الشائعات أقوى من الوقائع.. كيف تحوّلت الإمارات إلى هدف لآلة الدعاية السودانية؟

في خضم حربٍ مدمرة تمزق السودان منذ أكثر من عام، برزت دولة الإمارات كاسمٍ حاضر في معظم البيانات والدعايات الصادرة عن معسكر بورتسودان، فمرة تُصوَّر كداعم عسكري خفي لقوات الدعم السريع، ومرة أخرى تُتَّهم بالتورط في جرائم حرب، قبل أن تُقدَّم في بعض الروايات ذاتها كوسيط سلام يملك مفاتيح الحل، هذا التناقض الفج يكشف أن استحضار الإمارات في الخطاب الإعلامي ليس سوى أداة سياسية بيد أحد أطراف الصراع، تُوظَّف لتبرير الإخفاقات الداخلية وصرف الأنظار عن انتهاكات موثقة وجرائم متزايدة، القصة الأخيرة حول "إسقاط طائرة أجنبية في نيالا" مثّلت نموذجًا صارخًا لهذه الاستراتيجية، خبر مثير بلا صور أو شهود أو بيانات رسمية، تلاه بيان رسمي يخلط الحقائق بالدعاية، وبينما ينشغل السودانيون في البحث عن الحقيقة، يتضح أن ما يجري هو صناعة سردية عدائية مقصودة، هدفها تحميل الخارج مسؤولية حربٍ صنعها الداخل، وإيجاد "عدو افتراضي" يُبقي آلة الصراع مشتعلة.
حادثة نيالا.. رواية بلا أثر
منذ اندلاع النزاع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، لم يتوقف سيل الأخبار المتناقضة التي تستحضر اسم الإمارات بشكل مباشر أو ضمني، الجديد في هذه المرحلة أن أبوظبي تحوّلت إلى عنصر دائم في الخطاب الدعائي لمعسكر بورتسودان: تُدان حينًا وتُستَرضى حينًا آخر، في محاولة لتوظيفها كأداة سياسية وإعلامية.
الجدل الأخير حول إسقاط طائرة أجنبية في مدينة نيالا شكّل مادة خصبة لهذا الخطاب، الرواية التي انتشرت على بعض المنصات الإعلامية بدت مصممة لإثارة ضجة، لكنها سرعان ما اصطدمت بغياب الأدلة.
فلا صور التقطها السكان، ولا مقاطع فيديو من شهود عيان، ولا بيانات رسمية من سلطات الطيران المدني، خبير في أمن الطيران –فضّل عدم ذكر اسمه– علّق قائلاً: "حادثة بهذا الحجم لا يمكن أن تمر دون توثيق في زمن الهواتف الذكية، وإن غياب الأدلة يكفي وحده لتبديد القصة".
ورغم ذلك، صدرت تصريحات من معسكر بورتسودان تتحدث عن "تهديدات أجنبية"، في حين نفت قوات الدعم السريع بشكل قاطع الرواية، معتبرة إياها دعاية سياسية تهدف لصرف الانتباه عن أزمات داخلية متفاقمة.
ازدواجية السردية
ما يلفت الانتباه، أن الخطاب الصادر عن بورتسودان لا يلتزم بخط واحد تجاه الإمارات، فحين تكون الحاجة إلى خلق "عدو خارجي"، تُتهم أبوظبي بأنها تدعم قوات الدعم السريع وتزوّدها بالسلاح.
وحين تفرض الوقائع الدولية حضور الإمارات كوسيط في محادثات السلام، يتحول الخطاب فجأة ليصفها بالداعم لعملية سياسية يقودها المدنيون.
هذا التذبذب يعكس غياب استراتيجية إعلامية واضحة، لكنه يحقق غرضًا واحدًا: إبقاء الإمارات حاضرة في المشهد بوصفها "ورقة سياسية" قابلة للاستخدام عند الحاجة.
صناعة عدو وهمي لتغطية الفشل الداخلي
لا يخفى أن هذه الحملات الإعلامية تأتي في وقت يواجه فيه الجيش السوداني عزلة دولية متزايدة، فقد غابت حكومة بورتسودان عن مؤتمرات دولية رئيسية حول السودان، بينما شاركت الإمارات بشكل فاعل في مؤتمرات لندن وجنيف، حيث قدمت مقترحات لإغاثة المدنيين وفتح ممرات إنسانية.
أمام هذا التهميش، يجد الخطاب الدعائي نفسه مضطرًا إلى شيطنة الإمارات لإقناع جمهوره الداخلي بأن "الخارج" هو سبب استمرار الحرب، لا الانقسامات الداخلية ولا الانتهاكات الموثقة.
هذه الاستراتيجية ليست جديدة في الحروب الأهلية، حيث يبحث كل طرف عن "شماعة خارجية" يعلق عليها خسائره وأخطاؤه.
غير أن اللافت في الحالة السودانية، أن اسم الإمارات يتكرر بإصرار، وكأن الهدف هو تحويلها إلى "بطاقة اتهام جاهزة" تبرر أي مأزق سياسي أو عسكري.
غياب الأدلة.. السردية تنهار
رغم كثرة البيانات والشائعات، يظل العامل المشترك هو غياب الأدلة الملموسة. تقارير الأمم المتحدة ومجلس الأمن لم تحمل أي إشارة إلى تورط إماراتي في دعم أحد أطراف النزاع، بل على العكس، أثنت بعض التقارير على دورها في دعم مبادرات السلام.
كما أن التحقيقات الإماراتية الأخيرة حول محاولة تهريب ملايين الطلقات إلى داخل السودان أظهرت حرصًا على الشفافية وكشف المتورطين من داخل المؤسسة العسكرية السودانية نفسها.
هذا التناقض بين الواقع والادعاءات يضعف مصداقية الخطاب الصادر عن بورتسودان، ويجعل الرواية الرسمية عرضة للتشكيك حتى داخل بعض الأجهزة الحكومية، بحسب مصادر محلية اعترفت بأن "المعلومات حول حادثة نيالا لم تصل بشكل رسمي أو موثوق".
من جهته يرى الكاتب الصحفي والمحلل السياسي السوداني محمد المختار محمد، أن الحملة التي يقودها معسكر بورتسودان ضد الإمارات لا تنفصل عن محاولات منهجية لتزييف مسار الأزمة السودانية.
ففي حديثه لـ"العرب مباشر"، أكد أن الدور الإماراتي في دعم الأمن وإحلال السلام وتخفيف المعاناة الإنسانية في السودان "أمر ثابت وملموس، لا يحتاج إلى إثبات جديد من مجلس الأمن أو غيره، بل إن التقارير الأممية الأخيرة جاءت بمثابة تأكيد للمؤكد".
ويضيف أن لجوء الجيش السوداني، الذي يخضع لنفوذ الحركة الإسلامية، إلى محكمة العدل الدولية "ليس سوى محاولة للتنصل من مسؤولية أزماته الداخلية، وإعادة تعريف الصراع بوصفه نزاعًا خارجيًا، بما يسمح بتحميل تبعاته على دول الجوار، وفي مقدمتها الإمارات".
ويذهب المختار إلى أبعد من ذلك بالإشارة إلى أن الدعوى المقدمة ضد أبوظبي "تمثل قرارًا صادرًا عن التنظيم الدولي للإخوان وبعض الأطراف الساعية إلى خدمة أجندات سياسية وإعلامية، أكثر من كونها تحركًا قانونيًا جادًا".
كما يلفت، أن الاتهامات "تقوم على روايات مفبركة وملفقة، وتعاني من ثغرات قانونية وشكلية، وإلا لكان الجيش قد توجه إلى محكمة الجنايات الدولية، حيث يواجه قادته تهمًا خطيرة تتعلق بالإبادة وجرائم ضد الإنسانية في دارفور.
الإمارات كأداة خطابية
من خلال تتبع مسار هذه الروايات، يتضح أن الإمارات ليست موضوعًا للنزاع بقدر ما هي أداة في خطاب بورتسودان، مرة تُستَخدم لتصوير الجيش كمدافع عن السيادة ضد "تدخل خارجي"، ومرة أخرى تُستَحضر كوسيط يُعوّل عليه في إنقاذ البلاد.
لكن في الحالتين، تبقى الحقيقة غائبة: لا أدلة على تورط إماراتي في النزاع، ولا مؤشرات على أن هذه الحملات الإعلامية أسهمت في تقريب السودان من السلام.
بعبارة أخرى، الإمارات تتحول في خطاب بورتسودان إلى "شماعة سياسية" تُعلَّق عليها مسؤولية استمرار الحرب، بينما يبقى الواقع أن الحرب صناعة سودانية خالصة، وأن أطرافها الداخلية هي وحدها المسؤولة عن الدماء المهدورة والمستقبل المعلَّق.