غزة تحت رحمة الشاحنات.. هل فشلت واشنطن في تمرير شريان الحياة لغزة؟

غزة تحت رحمة الشاحنات.. هل فشلت واشنطن في تمرير شريان الحياة لغزة؟

غزة تحت رحمة الشاحنات.. هل فشلت واشنطن في تمرير شريان الحياة لغزة؟
حرب غزة

في وقت تغرق فيه غزة في ظلال المجاعة، وتتزايد صور الأطفال الهزيلين على الشاشات، تمضي واشنطن في محاولاتها لإظهار قيادتها لأزمة إنسانية معقّدة، لكنها تصطدم مرة تلو الأخرى بجدران الواقع: شركاء غائبون، ميدان مشتعل، وتوازنات هشّة تحوّل المساعدات من عربات نجدة إلى أدوات تفاوض سياسي.

 ورغم ما يبدو ظاهريًا من اندفاعة أميركية لإغاثة القطاع المحاصر، إلا أن المبادرات الميدانية سواء كانت عبر الممر البحري أو الإسقاطات الجوية أو جسر الشاحنات تكشف عن عزلة استراتيجية متنامية تعيشها واشنطن، وسؤال أخلاقي يتردد بهمس عالٍ من يتحكم فعلاً في الجوع.. ومن يرسم سقف الإنقاذ؟

مبادرة أميركية تتعثر عند أول حاجز

في منتصف مايو، أطلقت الإدارة الأميركية أحدث مبادراتها الإنسانية لغزة، تمثلت في تسريع إدخال شاحنات إغاثة عبر ممر بري مؤقت في شمال القطاع.

المبادرة التي جاءت بعد شهور من تعثر الجسر البحري الذي قادته وزارة الدفاع بدت من الوهلة الأولى استجابة لضغوط دولية متصاعدة، خصوصًا من مؤسسات الأمم المتحدة التي حذّرت من "مجاعة كاملة" تتهدد مئات الآلاف من السكان.

لكن المبادرة فشلت عمليًا في تحقيق هدفها، مع تزايد حوادث نهب شاحنات المساعدات الإنسانية، وسط ظروف يأس وجوع شديدين يسيطران على السكان، حيث تعرضت حوالي 15 شاحنة تابعة لبرنامج الأغذية العالمي (WFP)، كانت تحمل إمدادات غذائية حيوية، بما في ذلك الدقيق المخصص للمخابز، للنهب في جنوب القطاع.

التقارير الأممية ومسؤولو برنامج الأغذية العالمي أكدوا أن هذه الحوادث تعود إلى الجوع واليأس والقلق بشأن وصول المزيد من المساعدات، في ظل وصف الأمين العام للأمم المتحدة الوضع بأنه "المرحلة الأكثر قسوة" من الصراع.

وعلى الرغم من تخفيف إسرائيل جزئيًا لحصار دام 11 أسبوعًا على المساعدات، إلا أن الكميات التي تدخل القطاع ما تزال بعيدة كل البعد عن تلبية الاحتياجات الهائلة للسكان.

ويُضاف إلى ذلك التدهور الأمني والفوضى؛ مما يفاقم من تحديات إيصال المساعدات بأمان.

وفق مصادر دبلوماسية في نيويورك، فإن الولايات المتحدة لم تجرِ مشاورات حقيقية مع منظمات الإغاثة الأممية قبل الإعلان عن الخطة، بل تم تقديم الأمر كقرار سيادي على الأرض، دون ضمان حماية الشحنات بعد تجاوز الحدود.

العمل الأحادي في ساحة معقدة


يعكس فشل المبادرة الأخيرة انزلاق الولايات المتحدة إلى سياسة "العمل بمفردها" في ملف شديد الحساسية، في السابق، كانت واشنطن تحرص على إشراك إسرائيل، مصر، قطر، وحتى السلطة الفلسطينية بشكل غير مباشر في عمليات توزيع المساعدات. أما اليوم، فهناك قناعة متزايدة داخل المؤسسات الدولية بأن واشنطن تتصرف كفاعل عسكري أكثر منها شريكًا إنسانيًا.

في الميدان، لا توجد آلية موثوقة لتوزيع المساعدات، حماس أُقصيت من أي شراكة مباشرة، والسلطة الفلسطينية لا تملك وجودًا فعليًا في غزة، والمنظمات الإنسانية عاجزة عن حماية طواقمها وسط الفوضى الأمنية.

أما الجيش الإسرائيلي، فغير معني بحماية الشاحنات، ولا يرى في "التنسيق الإنساني" أولوية تتقدم على أهدافه العسكرية، بهذا المعنى، لم تعد المساعدات مجرد شحنات غذائية، بل تحولت إلى عبء سياسي وأمني في وقت واحد.

الجوع كورقة تفاوض


في دوائر صنع القرار، بدأ يُطرح سؤالٌ محرج: هل تستخدم الولايات المتحدة المساعدات كورقة ضغط سياسي؟ فبينما كانت الشاحنات تقف عند المعابر، كانت مفاوضات التهدئة في القاهرة تنهار تباعًا، ما أثار تكهنات بأن تأخير الإمدادات يهدف إلى تسريع قبول حماس بالشروط الأميركية والإسرائيلية لاتفاق تبادل الأسرى.

من جانبه يقول د. محمد المنجي أستاذ العلوم السياسية: إن واشنطن لم تعُد تفصل بين البعد الإنساني والسياسي، بل تعتبر أن المساعدات "جزء من هندسة الحل" وليست مجرد وسيلة إغاثة، وهذا النهج يعني أن أرواح آلاف المدنيين مرهونة بإيقاع المفاوضات، لا بصرخة الجوع.

وأضاف المنجي - في حديثه لـ"العرب مباشر"-، أن هذه الفرضية ترسخ لحقيقة أن معظم المساعدات التي دخلت بالفعل لم تصل إلى مستحقيها، بل تعرضت للنهب أو أُعيد توزيعها بشكل غير منظم، وسط غياب آليات رقابة محلية أو دولية.

وتابع المنجي، ما حدث في غزة خلال الأسابيع الماضية ليس مجرد تعثر تقني في إيصال شاحنات غذاء، بل انهيار سياسي وأخلاقي لفكرة القيادة الإنسانية التي لطالما روّجت لها واشنطن في الأزمات العالمية، مضيفًا: تكشف الصور القادمة من غزة عن كارثة إنسانية متفاقمة، وتآكل واضح لقدرة واشنطن على إقناع العالم بأنها قادرة على ضبط إيقاع الإنقاذ، فالمساعدات، بلا شراكة ميدانية حقيقية، وبلا توافقات سياسية حازمة، ستبقى عرضة للعبث والتسييس، وربما تتسبب في تفاقم المأساة بدلًا من تخفيفها.


لا مساعدات بلا ممرات آمنة


في السياق ذاته يعلّق الدكتور طارق فهمي، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة القاهرة، على المشهد الإنساني في غزة، مشيرًا أن ما يحدث يكشف فشلًا مركبًا في إدارة الملف، ليس فقط من الجانب الأمريكي بل من معظم الفاعلين الدوليين. 

ويقول فهمي في تصريحات لـ"العرب مباشر"، الولايات المتحدة راهنت على الحل الإنساني باعتباره مدخلًا لإعادة التموضع في غزة، لكنها تجاهلت الحقيقة الأساسية: لا مساعدات بلا ممرات آمنة، ولا ممرات دون اتفاقات ميدانية مع القوى المؤثرة على الأرض وعلى رأسها حماس.

ويضيف فهمي: اختارت واشنطن التحرك الأحادي عبر الميناء العائم أو عبر تنسيق مع أطراف غير مسيطرة فعليًا في الداخل، وهذا جعل الشاحنات أقرب إلى أدوات للعرض الإعلامي من كونها وسيلة إنقاذ حقيقية، كما أن استخدام المساعدات كسلاح ضغط سياسي – سواء على حماس أو حتى على إسرائيل – يفرغ العمل الإنساني من مضمونه ويعيد إنتاج الأزمة بأدوات جديدة.

ويختم بالقول: "غزة لن تُدار من الخارج بشاحنات، بل من خلال توافقات سياسية حقيقية، وكل محاولة لتجاوز الواقع الميداني هي وصفة لمزيد من الفوضى وسقوط الضحايا الأبرياء تحت عجلات التنافس الجيوسياسي.