التجنيد الناعم.. الإخوان والمسارات الرقمية لصناعة المتطرفين الجدد
التجنيد الناعم.. الإخوان والمسارات الرقمية لصناعة المتطرفين الجدد

في الزوايا المظلمة للإنترنت، وفي أروقة المساجد الصغيرة على أطراف المدن الأوروبية، تُنسج خيوط مشروع إسلاموي طويل النفس، لا يرفع السلاح، بل يُشغل الكاميرات، ويحرّك الخوارزميات، ويخاطب العقول الشابة بشعارات الهوية والاغتراب.
جماعة الإخوان المسلمين، التي بدأت وجودها في أوروبا قبل عقود كامتداد ديني لمجتمعات مهاجرة، لم تعد مجرد تنظيم دعوي أو تيار فكري، بل باتت ماكينة إعلامية وسياسية معقدة، تُتقن توظيف الرقمنة والمظلومية في آن.
وبينما تنشغل الحكومات الأوروبية بمراقبة التطرف العنيف، يتحول الإسلام السياسي إلى كيان متحول، ناعم، يتسلل عبر الجمعيات، والمنصات، وورش العمل، حتى المدارس والمساجد، تقرير جديد صادر عن مركز توثيق الإسلام السياسي في فيينا، يكشف ملامح هذا التغلغل، ويضيء على التحولات التي تشهدها أوروبا في مواجهة استراتيجية التجنيد المتعددة الطبقات التي يتبعها الإخوان وسائر الجماعات المتفرعة عنهم.
*بنية عابرة للحدود*
على مدى العقود الماضية، تطور حضور جماعة الإخوان المسلمين في أوروبا من نشاط هامشي مرتبط بالمهجرين إلى بنية متماسكة عابرة للحدود، تستثمر في الأزمات والهويات المأزومة لبناء قاعدة نفوذ جديدة.
وفي حين يبدو التنظيم هادئًا ظاهريًا، تشير تقارير استخباراتية أوروبية، وعلى رأسها دراسات مركز توثيق الإسلام السياسي (DPI) في النمسا، إلى نشاط متزايد يستخدم أدوات متطورة، أبرزها الإعلام الرقمي ووسائل التواصل الاجتماعي.
تقول ليزا فلهوفر، رئيسة المركز النمساوي: إن الإخوان ومن على شاكلتهم لا يعتمدون فقط على الخطب أو اللقاءات الميدانية، بل ينشطون بذكاء على المنصات الرقمية، مستهدفين الفئات الشابة تحديدًا، مستغلين حاجتهم للانتماء ولإجابات بسيطة على أسئلة معقدة.
وتوضح، أن الجماعة توظف مزيجًا من الأدوات الرقمية والتقليدية، تُكيّفها وفقًا للفئة العمرية والثقافية المستهدفة: للمراهقين، هناك قنوات اليوتيوب والبودكاست والتحديات التفاعلية، وللكهول، تبقى المساجد والجمعيات المجتمعية أدوات تعبئة أساسية.
*الخطاب الإخواني في ثوب معاصر*
ما يجعل رصد هذا النشاط صعبًا هو قدرته على التخفّي خلف عناوين عامة مثل: "حقوق المسلمين"، أو "مناهضة العنصرية"، أو حتى "التمكين المجتمعي". إلا أن التجنيد، كما تحذر فلهوفر، لا يبدأ بشعارات عنيفة، بل بأفكار ناعمة تتحوّل تدريجيًا إلى رؤية منغلقة للغرب، والديمقراطية، والدولة.
وفي حادثة لافتة في ولاية ستيريا النمساوية، دعت إحدى جمعيات المساجد مؤثرًا مثيرًا للجدل لإلقاء محاضرة.
هذا الحدث، رغم بساطته الظاهرة، كان جزءًا من سلسلة أنشطة تهدف إلى ترسيخ رموز جديدة بين الشباب المسلم، تُقدّم الخطاب الإخواني في ثوب معاصر، بعيدًا عن الوجوه التقليدية التي باتت مكشوفة للسلطات.
وفي ألمانيا، تتكرر الظاهرة بأساليب أكثر احترافًا. فقد شهدت مدينة هامبورغ تظاهرة ضخمة شارك فيها أكثر من ألفي شخص، تم تصويرها بعدسات سينمائية واستخدامها لاحقًا في مواد دعائية على منصات "تيك توك" و"يوتيوب" لجذب المزيد من المتابعين.
من يقف خلف هذا النشاط؟ مجموعة حديثة تُدعى "Muslim Interaktiv"، نشأت على الإنترنت قبل ثلاث سنوات، وتُعد اليوم من أبرز الأمثلة على أساليب الجيل الرقمي الجديد من الإسلامويين.
*التجنيد غير العنيف*
تربط هيئة حماية الدستور الألمانية هذه المجموعة بحزب التحرير المحظور، المنبثق عن جماعة الإخوان، مشيرة إلى خطر ما تسميه "التجنيد غير العنيف"، حيث لا توجد قنابل أو أسلحة، بل أفكار يُعاد تدويرها لتخلق مناخًا من العزلة والعداء تجاه المجتمع المحيط.
ورغم أن هذه الجماعات لا تُمارس العنف مباشرة، فإنها توفر الأرضية الفكرية التي تسبق كثيرًا من العمليات الإرهابية الفردية، كما حدث في هجوم "فيلاخ" بالنمسا، حيث تبيّن أن المنفذ اعتنق الأفكار الراديكالية عبر الإنترنت دون ارتباط تنظيمي تقليدي.
الخطير في الأمر، وفقًا لفلهوفر، هو استغلال الجماعات الإسلاموية للخوارزميات التي تدفع المستخدم نحو المزيد من المحتوى المشابه لما سبق أن شاهده، ما يخلق "غرف صدى" رقمية تعزل الفرد عن الآراء المختلفة، وتكرّس رؤية أحادية للعالم.
وتقول: "بهذه الطريقة، يتحوّل الشاب من مُشاهد عابر إلى ناشط رقمي، وربما إلى متطرف لاحقًا، دون أن ينتبه أو يلاحظ محيطه ذلك".
وعلى ضوء هذا الواقع، تدعو فلهوفر وخبراء أمنيون إلى مراجعة شاملة لاستراتيجيات المراقبة، والتركيز على المسارات الرقمية، ووضع سياسات وقائية تحاصر هذه الجماعات قبل أن تُحكِم قبضتها على جيل جديد من مسلمي أوروبا.
المعركة المقبلة، كما يبدو، ليست في المساجد فقط، بل في شاشات الهواتف، حيث تُعاد صياغة الهويات وتُبنى الولاءات الجديدة بهدوء.