إيران وإسرائيل.. قرون من الصراع تتجسد في صواريخ لبنان وضربات سوريا
إيران وإسرائيل.. قرون من الصراع تتجسد في صواريخ لبنان وضربات سوريا

من بيروت إلى دمشق، ومن أزقة الجنوب اللبناني إلى سماء الجولان، يتصاعد التوتر بين إيران وإسرائيل ليبلغ ذروات جديدة في الفترة الماضية، ضمن ما يبدو أنه أكثر من مجرد مواجهة بالوكالة، لم يعد الحديث عن صراع محدود في نطاق حزب الله أو غارات إسرائيلية متفرقة، بل عن احتكاك مباشر بين مشروعين يتنازعان الجغرافيا والعقيدة والنفوذ.
في الخلفية، تتكثف الضربات الجوية، ويزداد استهداف القيادات، وتظهر إشارات على اقتراب الحرب المفتوحة التي لطالما تجنبتها الأطراف، ولكنّ ما يدور الآن ليس وليد اللحظة، بل يتكئ على تاريخ طويل من التنافس، يتجاوز الثورات والتحالفات، ويعود في جذوره إلى قرون سابقة حين تشكلت الهوية الجيوسياسية للمنطقة، وبينما تتخندق إيران على جبهات الشام ولبنان، وتكثّف إسرائيل عمليات "الضربات الوقائية" -وفق وصفها-، يبدو أن صراع الظل بين الطرفين قد بدأ بالخروج إلى الضوء، وسط بيئة إقليمية مشتعلة، وغياب أي مظلة دولية ضامنة للتوازن.
من فارس إلى فلسطين.. جذور النفوذ والصراع
لا يمكن فهم التصعيد الأخير بين إيران وإسرائيل دون الرجوع إلى جذور أعمق من مجرد حسابات عسكرية حديثة. فالعلاقة بين الطرفين تعود إلى ما قبل ولادة الدول الحديثة، حين كانت بلاد فارس في القرن السادس قبل الميلاد ملاذًا لليهود بعد السبي البابلي، حيث سمح لهم الملك كورش الكبير بالعودة إلى القدس وإعادة بناء الهيكل، بل وكان يُنظر إليه في الرواية التوراتية كـ"المخلّص".
هذا التاريخ المشترك أسس لمرحلة تعايش امتدت قرونًا، قبل أن تنقلب المعادلة بعد قيام إسرائيل عام 1948، وما تبعها من تحولات في هوية إيران السياسية مع الثورة الإسلامية عام 1979.
تحوّل دور إيران من بلدٍ احتضن الأقليات اليهودية، إلى قوة إقليمية ترى في إسرائيل كيانًا معاديًا مرتبطًا بالغرب؛ مما أضفى على الصراع طابعًا أيديولوجيًا.
من سردية دينية إلى صراع نفوذ: قرون تحت الرماد
النفوذ الإيراني في سوريا ولبنان اليوم ليس وليد اللحظة، بل امتداد لرؤية جيوسياسية عميقة تتغذى على سردية دينية وتاريخية.
فكما سعت الإمبراطورية الفارسية قديمًا للهيمنة على الهلال الخصيب، تسعى الجمهورية الإسلامية اليوم لإعادة رسم خريطة النفوذ عبر قوس يمتد من طهران إلى البحر المتوسط.
في المقابل، تنظر إسرائيل إلى هذا التمدد باعتباره تهديدًا وجوديًا، وليس فقط عسكريًا، ما يجري في الجنوب اللبناني أو ضواحي دمشق، هو في جوهره تجسيد لصراع بين مشروعين حضاريين يرى كل منهما في الآخر عائقًا أمام تحقيق "نموذجه الإقليمي".
الصراع هنا ليس فقط بين دولتين، بل بين سرديتين: إيران الثورية التي تدّعي تمثيل المستضعفين ونصرة القدس، وإسرائيل التي تدعي استنادها إلى شرعية توراتية، بالإضافة لتفوق عسكري مطلق، ومع كل ضربة جوية أو عملية اغتيال، يُعاد تفعيل هذا التوتر التاريخي، وكأن قرونًا من التنافس تُبعث من رماد الإمبراطوريات الغابرة.
ضربات إسرائيلية مكثفة
في مايو 2025، استهدف قصف إسرائيلي دقيق مبنى في منطقة السيدة زينب جنوب دمشق، أدى إلى مقتل ضابطين رفيعين في الحرس الثوري الإيراني، أحدهما يوصف بأنه مهندس العمليات الإيرانية في الجنوب السوري.
لم تكن هذه الضربة معزولة، بل جزءًا من سلسلة عمليات إسرائيلية ممنهجة استهدفت خلال الأشهر الأخيرة مستودعات صواريخ، محطات تنصّت، ومواقع قيادة إيرانية أو لحزب الله على طول خط دمشق - بيروت.
هذا التصعيد جاء بعد شهور من الضربات المتفرقة في عام 2024، والتي طالت مواقع شحن ونقل أسلحة دقيقة، يُعتقد أنها كانت موجهة إلى لبنان.
لكن الضربات الأخيرة تعكس تحولًا استراتيجيًا في السياسة الإسرائيلية: التركيز على تقويض العمق الإيراني في سوريا قبل أن يتحول إلى جبهة نشطة متصلة بالجبهة اللبنانية.
في لبنان، أطلقت طائرات إسرائيلية مسيّرة عدة غارات ضد أهداف في الجنوب والبقاع، بعضها استهدف قادة ميدانيين في جماعات محسوبة على إيران، مثل: "حركة النجباء" و"الجبهة الشعبية القيادة العامة"، كما وقع انفجار غامض في مخيم برج البراجنة، يُعتقد أنه كان محاولة لاغتيال شخصية محسوبة على "فيلق القدس".
الانزلاق إلى حرب شاملة
الرد الإيراني لم يكن مباشرًا، لكنه تمظهر عبر تصعيد حزب الله، الذي كثّف في الأسابيع الأخيرة عملياته في الجليل الأعلى، ونفذ هجمات نوعية بالصواريخ والطائرات المسيّرة، شملت قواعد عسكرية إسرائيلية ومواقع رادار.
في أبريل 2025، اعترف الجيش الإسرائيلي بمقتل أربعة جنود في عملية تسلل لحزب الله في مزارع شبعا.
هذا التصعيد الميداني لم يأتِ من فراغ، بل في ظل واقع إقليمي متغير؛ فإيران ترى أن الضغط على إسرائيل على حدودها الشمالية هو جزء من الرد على الهجمات داخل أراضيها – آخرها الهجوم الذي وقع في مدينة أصفهان في مارس 2025 والذي اتهمت فيه تل أبيب.
بينما تحاول إسرائيل تجنب الانزلاق إلى حرب شاملة، لكنها في الوقت ذاته تواصل عمليات "جز العنق" لمنع التموضع الإيراني في محيطها الاستراتيجي.
تجاوز الخطوط التقليدية
الدكتور محمد محسن الباحث في الشؤون الإيرانية، يرى أن الصراع اليوم أقرب ما يكون إلى نموذج الحرب الرمادية: لا سلم مستقر، ولا حرب مفتوحة، بل منطقة مشتعلة تُدار فيها العمليات بالتقسيط، وتُحسم الرسائل بالنار".
ويضيف محسن في حديثه لـ"العرب مباشر"، أن المشكلة أن هذا النموذج لم يعد قادرًا على احتواء التراكمات، فعدد العمليات ونوعيتها تجاوز الخطوط التقليدية.
في الخلفية، تتابع الولايات المتحدة بقلق. إدارة ترامب الثانية التي تدفع باتجاه تعزيز الدعم الاستخباراتي لإسرائيل، لكنها تتجنب التورط العسكري المباشر، فيما تواصل موسكو ممارسة دور المتفرج الحذر في سوريا، دون أن تتدخل بفاعلية، رغم أنها ضامنة اتفاقات عدم التصعيد بين الأطراف.
وأكد محسن، أن التخوف الأبرز حاليًا هو من انزلاق غير محسوب، فكل ضربة تحمل احتمالية الانفجار، وكل اغتيال قد يدفع الأطراف إلى ردود خارج الحسابات التقليدية. فالمعادلة لم تعد فقط بين إيران وإسرائيل، بل تشمل لاعبين ميدانيين مثل حزب الله، وميليشيات شيعية عراقية، وحتى أطراف فلسطينية.
وتابع محسن، في ظل انشغال الولايات المتحدة بملفاتها الداخلية والصراعات الكبرى مع الصين وروسيا، يبدو الشرق الأوسط بلا مظلة دولية حقيقية تضبط إيقاع التوتر.
وأوضح، أن التقارير الاستخباراتية الأميركية والإسرائيلية تشير، أن إيران ماضية في تثبيت نفوذها من خلال خطوط إمداد تمتد من العراق إلى سوريا ولبنان، رغم الغارات المستمرة، في المقابل، تصعّد إسرائيل تكتيك "جز العشب"، وهو نهج يعتمد على الاستنزاف المستمر دون الدخول في حرب شاملة، مضيفًا، هذا التوازن الهش مهدد بالانهيار في أي لحظة، خاصة إذا ما تم استهداف قيادات بارزة من الجانبين.
الحرب قادمة
في تل أبيب، يبدو أن القناعة تزداد بأن "الحرب القادمة" قد تكون شاملة، ومتعددة الجبهات، وهو ما عبّر عنه رئيس الأركان هرتسي هليفي في مؤتمر أمني عقد في أبريل حين قال: "نتعامل مع واقع استراتيجي يتطلب جاهزية لحرب تمتد من بيروت إلى بغداد:.
أما في طهران، فالصمت الإعلامي لا يخفي التحضيرات، ومصادر غربية تتحدث عن تعزيز إيران لقدراتها في مطار التيفور وقاعدة الإمام علي في البوكمال، إضافة إلى نقل أنظمة دفاع جوي متقدمة عبر العراق إلى سوريا، في إشارة واضحة إلى نية الردع وليس الانكفاء.